يرد تساؤل حول مشروعية تناول نوعية من الكبسولات تحتوي على زيت الفقمة (fur seal oil) وتستخدم للعلاج أو كمكملات غذائية ؛ مثل زيت السمك ؛ فهل يُعدُّ هذا الحيوان من النوع البحري الذي ورد الحل بأكل ميتته ، لا سيما وأن هذه الكبسولات قد تكون صنعت في بلد غير مسلم أو مما لا يدين بدين سماوي ؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من بُعث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
قبل البدء في بحث هذه المسألة لابد من الوقوف على حقيقة حيوان الفقمة ، ومعرفة إلى أي فصيل ينتمي ؟ وهل هو حيوان بري أو بحري أو برمائي ؟ وما حكم الشرع فيه ؟ هل هو من المباحات الطيبات أو من المحرمات المستخبثات ؟ وذلك حتى يتسنى الوقوف على حكم ما يستخلص منه من زيت أو غيره ؛ إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
فنقول وبالله التوفيق ومنه العون والمدد :
* الفقمة أو عجل البحر : حيوان ثدي ينتمي إلى الثدييات ، يعيش في البحر ، لكنه يخرج إلى اليابسة من أجل التناسل أو التوالد ووضع الصغار ، أو من أجل الراحة من الغوص في مياه البحار , ويتركز وجوده في بعض مناطق بحر الشمال وغرينلاند في نصف الكرة الشمالي , وفي بعض الجزر في نصف الكرة الجنوبي , ويوجد له عدة أنواع تميزها عن بعضها صفات عديدة مثل : خروف البحر , وبقر البحر .
ويصاد هذا الحيوان من أجل فرائه واستخلاص الزيت من لحمه وشحمه ([1] ) .
وبعض أنواع الفقمة يقضي معظم وقته على اليابسة أو على قطع كبيرة عائمة من الثلج ، في حين أن أنواعاً أخرى منه قد تبقى في البحر لثمانية أشهر ، ولا تذهب إلى الشاطئ أبداً([2] ) .
أما غذاء الفقمة هو الأعشاب البحرية ، والطحالب ، والأسماك .
إذاً نستطيع القول : إن الفقمة حيوان برمائي يعيش في البر والبحر, لكنه يقضي معظم وقته في البحر, ويقتات على الأسماك والأحياء البحرية الأخرى .
وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في حكم هذا النوع من الحيوانات من حيث الحل والحرمة, وذلك بعد اتفاقهم على إباحة السمك بجميع أنواعه ، إلا الطافي منه فقد خالف فيه الحنفية .
يقول الإمام النووي رحمه الله : «وقد أجمع المسلمون على إباحة السمك»([3]).
ويقول ابن حجر رحمه الله : «ولا خلاف بين العلماء في حِلِّ السمك على اختلاف أنواعه» ([4]).
وفي حاشية ابن عابدين : «ولا يحل حيوان مائي إلا السمك غير الطافي»([5]).
أما الحيوان الذي يعيش في البر والبحر (البرمائي) , فقد وقع فيه الخلاف , وذلك على النحو الآتي :
أولاً : مذهب الحنفية :
ذهب الحنفية رحمهم الله تعالى إلى أنه لا يحل من الحيوان البرمائي شيء , ولا يحل من حيوان البحر عموماً إلا السمك ، بشرط ألا يكون طافياً ، وإلا حَرُمَ كذلك ([6]).
يقول الإمام الكاساني رحمه الله تعالى : «فالحيوان في الأصل نوعان : نوع يعيش في البحر , ونوع يعيش في البر , أما الذي يعيش في البحر, فجميع ما في البحر من الحيوان محرَّم الأكل إلا السمك خاصة فإنه يحل أكله إلا ما طفا منه ، وهذا قول أصحابنا رضي الله عنهم» ([7]).
واستدل الحنفية على ذلك بما يأتي :
أولاً : قول الله عز وجل : ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ﴾ [المائدة:3].
وجه الدلالة من الآية : أن الله تعالى قد نص على تحريم الخنزير عموماً من غير فصل بين البريِّ والبحري([8]) .
ثانياً : قول الله تعالى : ﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].
ووجه الدلالة من الآية : أن الله عز وجل قد حرَّم في هذه الآية الخبائث, وما سوى السمك خبيث ؛ كالضفدع والسرطان والحية ونحوها ([9] ).
ثانياً : مذهب المالكية :
ذهب المالكية رحمهم الله تعالى إلى إباحة جميع أنواع الحيوان الذي يعيش في البر والبحر (البرمائي)؛ كالضفدع والسلحفاة والسرطان ونحو ذلك , قالوا : ولا يشترط تذكيته , إلا أن الإمام مالكاً رحمه الله كره خنزير الماء ([10]).
يقول ابن عبد البر رحمه الله تعالى : «قال مالك : لا بأس بأكل كل حيوان البحر , ولا يحتاج شيء منه إلى ذكاة , وهو حلال حيّاً وميتاً , إلا أنه كره خنزير الماء , وقال : أنتم تسمونه خنزيراً»([11]) .
وجاء في تهذيب مسائل المدونة : «ويؤكل ما يعيش من دواب الماء في البر الثلاثة الأيام والأربعة، ويؤكل ترس البحر بغير ذكاة ...»، ثم قال : «وتوقف مالك أن يجيب في خنزير الماء , وقال : أنتم تقولون خنزير , وقال ابن القاسم : وأنا أتقيه, ولا أرى أكله حراماً»([12]).
واستدل المالكية لما ذهبوا إليه بما يلي :
أولاً : قول الله عز وجل : ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ﴾ [المائدة : 96].
والدليل في هذه الآية من وجهين :
أحدهما : قوله تعالى : ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ﴾ يعني كل صيد البحر ، فكان على عمومه في جميع حيوانه .
والثاني : قوله : ﴿وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ ؛ يعني : مطعومه ، فدل على أن جميعه مطعوم([13]).
ثانياً : قول النبي ﷺ في البحر : (هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ) ([14]).
وجه الدلالة من هذا الحديث : أنَّ فيه تصريحاً من النبي ﷺ بأن ميتة البحر حلال، وهو فصل في محل النزاع. وقد تقرر في الأصول أن المُفرَد إذا أضيف إلى مَعْرفَة كان من صِيَغ العُموم. كقوله تعالى : ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لا تُحْصُوهَا ﴾ [النحل : 18] .
وبه نعلم أن قوله ﷺ (ميتته) يَعُمُّ بظاهره كل ميتة مما في البحر, فدل على حِلِّ جميع ما فيه حيّاً أو ميتاً ([15]).
ثالثاً : مذهب الشافعية :
ذهب الشافعية رحمهم الله تعالى في الصحيح المعتمد من مذهبهم إلى إباحة جميع أنواع الحيوان الذي يعيش في البر والبحر ، إلا الضفدع فإنه لا يحل([16]) .
يقول الإمام النووي رحمه الله : «قلت : الصحيح المعتمد أن جميع ما في البحر تحل ميتته إلا الضفدع , ويحمل ما ذكره الأصحاب أو بعضهم من السلحفاة , والحيَّة , والنسناس على ما يكون في ماء غير البحر »([17]).
وهل تشترط ذكاته أم لا ؟
قال الماوردي رحمه الله : «ما يكون مُسْتَقرُّهُ في البرِّ ، ومَرْعَاهُ من البَحر مثل : طير المَاء فهذا من حيوان البَرِّ ، ويجري عليه حُكمه (يعني تشترط ذكاته تبعاً لحيوان البر) .
والقسم الثاني : ما يكون مستقرُّه في البحر ومرعاه في البر ؛ كالسُّلحفاة ، فهذا من حيوان البحر، ويجري عليه حكمه (يعني لا تشترط ذكاته تبعاً لحيوان البحر) .
والقسم الثالث : ما يَستَقِرُّ في البَرِّ والبَحر ويَرْعَى في البَرِّ والبَحر ، فيُراعَى أغلب حَالَيْهِ»([18]) .
وقد استدل الشافعية رحمهم الله لما ذهبوا إليه بما استدل به المالكية من عموم الآية والحديث .
وأما عدم إباحة الضفدع عندهم فلنهي النبي ﷺ عن قتله .
يقول الخطيب الشربيني رحمه الله : «والنهي هو ما صح عن ابن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : (لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح)»([19]).
رابعاً : مذهب الحنابلة :
ذهب الحنابلة رحمهم الله تعالى إلى أن جميع الحيوانات التي تعيش في البحر فقط , أو في البر والبحر مباحة ، إلا الضفدع والحية والتمساح([20]) .
يقول المرداوي رحمه الله : «وجميع حيوانات البحر مباحة إلا الضفدع والحية والتمساح» ([21]).
وهل تشترط التذكية عندهم ؟
نعم تشترط ذكاة الحيوان الذي يعيش في البر والبحر وإلا حرم .
يقول ابن قدامة رحمه الله : «كل ما يعيش في البر من دواب البحر لا يحل بغير ذكاة ؛ كطير الماء والسلحفاة وكلب الماء ، إلا ما لا دم فيه كالسرطان فإنه يباح بغير ذكاة»([22]) .
ويقول البهوتي رحمه الله : «فأما السمك وشبهه من حيوانات البحر مما لا يعيش إلا في الماء فيباح بغير ذكاة ...»، ثم قال : «وما كان مَأْوَاه البحر وهو يعيش في البر؛ ككلب الماء وغيره، وسلحفاة، وسرطان ونحو ذلك ، لم يبح المقدور عليه منه بغير ذكاة ؛ لأنه لما كان يعيش في البر أُلحق بحيوان البر احتياطاً »([23]).
ويلاحظ أنَّ في السرطان عندهم روايتين :
إحداهما : أنه يباح بغير ذكاة ؛ لأنه لا دم له سائلة ، وهي التي اختارها ابن قدامة كما مرّ.
والثانية : أنه لا يحل إلا بالذكاة ، وصححها ابن مفلح في المبدع ([24]).
وقد استدل الحنابلة على مذهبهم بما استدل به المالكية والشافعية من عموم الآية والحديث كما مرّ, واستثنوا الضفدع لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله , قالوا : فدل ذلك على تحريمه , وأما الحية فلأنها من المستخبثات , وأما التمساح فلأنه ذو ناب يفترس به([25]) .
وبعد هذا العرض لمذاهب الفقهاء وأقوالهم في حكم هذا الحيوان ومن كان على شاكلته مما يعيش في البر والبحر نستطيع أن نخلص إلى ما يأتي :
أولاً : إن هذا الحيوان – وهو الفقمة - مباح طاهر عند المالكية والشافعية ، ولا يشترط تذكيته، وبالتالي فإن ما يُستخلص منه من زيت أو غيره يكون كذلك طاهراً مباحاً تبعاً لأصله ولا إشكال فيه .
ثانياً : اشترط الحنابلة لحل حيوان الفقمة تذكيته , فإن ذُكِّي حَلَّ ، وإلا فلا .
ثالثاً : ذهب الحنفية إلى أن هذا الحيوان محرَّم ولا يباح أكله ، وميتته نجسة , وبالتالي فإن ما يُستخلص منه يكون كذلك تبعاً لأصله ، ومن ثم لا يحل الانتفاع به كغذاء أو دواء.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وحدة البحث العلمي بإدارة الإفتاء
______________________________
[1])) مجلة الجزيرة , العدد 104 لعام 1425، موسوعة ويكيبيديا , الموسوعة العربية على شبكة الإنترنت (حيوانات برمائية).
[2])) موقع المعرفة على شبكة الانترنت (www.marefa.org) – فقمة .
[3])) شرح النووي على مسلم (13/86 )
[4])) فتح الباري (9/619 )
[5])) حاشية ابن عابدين (5/618 )
[6])) بدائع الصنائع (5/35) ؛ الهداية شرح البداية (4/69) ؛ تحفة الملوك ( 1/214 ) ؛ مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر (4/163)
([7]) بدائع الصنائع ( 5/35 )
[9])) بدائع الصنائع (5/35) ؛ الهداية شرح البداية (4 /69) ؛ البحر الرائق ( 8/196).
([10])بداية المجتهد (1/380) ؛ الاستذكار (5/284) ؛ تهذيب مسائل المدونة (1/248) .
([11]) الاستذكار (5/284) .
([12]) تهذيب مسائل المدونة (1/248 , 249).
([13]) انظر تقرير هذا الدليل في الحاوي الكبير ( 15/613 )
[14])) الحديث أخرجه الإمام مالك في الموطأ رواية يحيى الليثي (2/495), وأبو داود في سننه (1/69) ,والترمذي في سننه (1/100) , والنسائي في سننه (1/50) , وابن ماجه في سننه (1/136) وغيرهم , يقول الإمام الترمذي رحمه الله : هذا حديث حسن صحيح وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي ﷺ . سنن الترمذي (1/100) , ويقول ابن الملقن رحمه الله : رواه الأئمة الأعلام أهل الحل والعقد ... ثم قال : وقال ابن الأثير في شرح المسند : هذا حديث صحيح مشهور أخرجه الأئمة في كتبهم واحتجوا به ورجاله ثقات . البدر المنير (1/348) .
[15]) ) أضواء البيان للشنقيطي (1/50) ؛ التمهيد لابن عبد البر (16/223) ؛ الحاوي الكبير(15/62) ؛ أحكام البحر (613) .
([16] ) المجموع (9/30) ؛ الحاوي الكبير للماوردي (15/60) ؛ مغني المحتاج للخطيب الشربيني (4/298).
([18]) الحاوي الكبير (15/62, 63).
[19])) مغني المحتاج (4/298) .
قلت : حديث النهي عن قتل الضفدع رواه أبو داود (2/789 ) , والنسائي (7/210 ) والحاكم (4/455 ) والبيهقي في الكبرى (9/258 ) عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه أن طبيباً سأل النبي ﷺ عن ضفدع يجعلها في دواء فنهاه النبي ﷺ عن قتلها . قال الحاكم : صحيح الإسناد وقال البيهقي : إنه أقوى ماورد في النهي .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ورواه البيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً (لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح).
([20]) المغني (11/83) ؛ الشرح الكبير (11/87) ؛ كشاف القناع (6/204) ؛ الإنصاف (10/364).
([23] ) كشاف القناع (6/204).
([25] ) المغني (11/85) ؛ المبدع (9/201) ؛ الشرح الكبير (11/87 ) .